درجت الثقافة الإنسانية على أن الحب شعور إنساني يبدأ أحيانا بالنظرة الأولى، وعزت بعض الثقافات الحب إلى النظر إلى المحبوب ورؤيته بالعينين، والإشكال هنا: كيف يحب فاقد البصر؟ وكيف له أن يشبه محبوبته بالقمر وإن لم يرى من القمر شيئا، بل ما كان له أن يعرفه إلا بتواتر الأخبار أن هناك شيء يسمى القمر وأنه بهي الهيئة في بدره؟ وإن كان الغزل الصريح الموجود في الشعر الإنساني لا يصور من المحبوبة إلا ظاهرها الجسدي وهيئتها في الكلام والمشي والتدلل، فكيف للكفيف أن يجتذبه جمال محبوبته؟ وكيف له أن يرى جمالها فيقع في حبها كما هو الحال مع غيره من المبصرين؟ وكيف يقدّر الكفيف جمال محبوبته بالقدر الذي تنتظره هي منه؟ ومن هذه التساؤلات خلصت الثقافات البشرية إلى عجز الكفيف عن الحب والغرام، وظلمته ظلما بيّنا حتى بعد مطالعة أشعار "بشار بن بُرد" الذي كان ماجنا وإن كان ضريرا! فما حقيقة الحب عند المكفوفين؟
يقول بشار بن بُرد:
- يا قومي أذني لبعض الحي عاشقةٌ والأذنُ تعشَقُ قبلَ العين أحيانا
- قالوا بمن لا ترى تهذِي؟ فقلت لهم الأذنُ كالعين توَفِّي القلبَ ما كانا
ففي البيت الأول يصرح لنا بشار بأن الأذن قد تقود صاحبها وتجذبه للعشق قبل عينه أو بدلا منها، فكما أن للوجه علامات عند الابتسام والتجهم والعُبوس والمرح والخجل والتمرد، فإن لصوت الإنسان خصائص تميزه عند أي من تلك المشاعر أيضا، فيستشعر الكفيف بانفراج الشفتين عند الابتسام وبحة الصوت عند الخجل وضم الأسنان عند العبَس وسرعة الكلام وكثرته عند المرح والسرور وقلة الكلام وحدّته عند التجهم والغضب وبطء الكلام وتقطعه عند التأمل والتفكير وما إلى ذلك. أما البيت الثاني فيلخص لنا حوار دار بين عامة القوم وبين الشاعر الكفيف، فلما تعجب منه قومه ورموه بالهذي عندما أضحى يصرح بعشقه، ثبت لنا أن مضمون الثقافة الإنسانية هنا وهناك لا يكاد يقنع بأن للكفيف حس مرهف وأن له قدرة كبيرة على الحب وجذب المحبوب، فقولهم "لا ترى" و"تهذي" يربط بين الرؤية والحب، فمن رأى أحب، ومن لم يرى هذَى! وهو قانون خاطئ، لأن "الأذن تعشق قبل العين أحيانا" فكم من ناظر لا يحب بقدر ما يبغض، وكم من سامع أحب قبل أن يرى! وبهذين البيتَين يلخص لنا بشار الخلاف القائم بين ثقافة عموم الناس لسطحيتهم عند الشعور بالحب والتعبير عنه، وطبيعة الكفيف التي تحب إن سمعت أو شعرت بالحب.
ولا يقف حب فاقد البصر لمحبوبته عند سماع صوتها، وإنما الحب يتأتى للإنسان عندما يجد في محبوبته من الصفات التي يدركها ما يتمنى فقد يجد الكفيف في محبوبته ريحا طيبة أو أسلوب عذب في الكلام أو ضحكة رصينة أو موقف ذات طبيعة خاصة. وخلاصة القول أن الكفيف إن كان قد حُرِم البصر، فإن لديه من مقومات الحب ما يجعله يحيى سعيدا هانئا سواء كان محبا أو محبوبا.
نشَرها لكم: وائل زكريا
ساحة النقاش