نجم يسطع في سماء "بغداد"

إتصل "أبو العلاء" في بغداد بخازن دار الكتب هناك "عبد السلام البصري"، وبدأ نجمه يلمع بها، حتى أضحى من شعرائها المعدودين وعلمائها المبرزين؛ مما أثار عليه موجدة بعض أقرانه ونقمة حساده، فأطلقوا ألسنتهم عليه بالأقاويل، وأثاروا حوله زوابع من الفتن والاتهامات بالكفر والزندقة، وحرّضوا عليه الفقهاء والحكام، ولكن ذلك لم يدفعه إلى اليأس أو الانزواء، وإنما كان يتصدى لتلك الدعاوى بقوة وحزم، ساخرًا من جهل حساده، مؤكدًا إيمانه بالله تعالى ورضاه بقضائه، فيقول تارة:

  • غَرِيَتْ بذمِّي أمةٌ وبحمدِ خالقِها غريتُ
  • وعبدتُ ربِّي ما استطعتُ، ومن بريته برِيتُ

ويقول تارة أخرى:

  • خلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت أمةٌ يحسبونهم للنفادِ
  • إنما ينقلون من دار أعما لٍ إلى دار شقوة أو رشادِ

ولم يكن أبو العلاء بمعزل عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والفكرية في عصره؛ فنراه يشارك بقصائده الحماسية في تسجيل المعارك بين العرب والروم، كما يعبر عن ضيقه وتبرمه بفساد عصره واختلال القيم والموازين فيه، ويكشف عن كثير مما ظهر في عصره من صراعات فكرية ومذهبية، كما يسجل ظهور بعض الطوائف والمذاهب والأفكار الدينية والسياسية. وقد عرف له أهل بغداد فضله ومكانته؛ فكانوا يعرضون عليه أموالهم، ويلحُّون عليه في قبولها، ولكنه كان يأبى متعففًا، ويردها متأنفًا، بالرغم من رقة حالة، وحاجته الشديدة إلى المال، ويقول في ذلك:

  • لا أطلُبُ الأرزاقَ والمولى يفيضُ عليَّ رزقي
  • إن أُعطَ بعضَ القوتِ أعلم أنَّ ذلك فوق حقي

وكان برغم ذلك راضيًا قانعًا، يحمد الله على السراء والضراء، وقد يرى في البلاء نعمة تستحق حمد الخالق عليها فيقول:

أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر

رسالة الغفران

لم يطل المقام بأبي العلاء في بغداد طويلاً؛ إذ إنه دخل في خصومة مع "المرتضي العلوي" أخي "الشريف الرضي"، بسبب تعصب "المعري" للمتنبي وتحامل المرتضي عليه؛ فقد كان أبو العلاء في مجلس المرتضي ذات يوم، وجاء ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضي وأخذ يتتبع عيوبه ويذكر سرقاته الشعرية، فقال أبو العلاء:

لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته: لك يا منازل في القلوب منازل لكفاه فضلاً

فغضب المرتضي، وأمر به؛ فسُحب من رجليه حتى أُخرج مهانًا من مجلسه، والتفت لجلسائه قائلاً: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر تلك القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكره. قالوا: النقيب السيد أعرف! فقال:

إنما أراد قوله:
  • وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص فهي الشهادة لي بأنِّي كامل

وفي تلك الأثناء جاءت الأخبار إلى أبي العلاء بمرض أمه، فسارع بالرجوع إلى موطنه بعد نحو عام ونصف العام من إقامته في بغداد.

العودة إلى الوطن

غادر أبو العلاء بغداد في (24 من رمضان 400 هـ = 11 من مايو 1010م)، وكانت رحلة العودة شاقة مضنية، جمعت إلى أخطار الطريق وعناء السفر أثقال انكسار نفسه، ووطأة همومه وأحزانه، وعندما وصل أبو العلاء إلى بلدته كانت هناك مفاجأة قاسية في انتظاره.. لقد تُوفِّيت أمه وهو في طريق عودته إليها. ورثاها أبو العلاء بقصيدة تقطُر لوعة وحزنًا، وتفيض بالوجد والأسى. يقول فيها:

  • لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت أسباب دنياكِ من أسباب دنيانا

ولزم داره معتزلاً الناس، وأطلق على نفسه رهين المحبسين، وظلَّ على ذلك نحو أربعين عامًا، لم يغادر خلالها داره إلا مرة واحدة، عندما دعاه قومه ليشفع لهم عند "أسد الدولة بن صالح بن مرداس" - صاحب حلب - وكان قد خرج بجيشه إلى المعرة بين عامي (418،417هـ = 1027،1026م)؛ ليخمد حركة عصيان أهلها، فخرج أبو العلاء، متوكئا على رجُل من قومه، فلما علم صالح بقدومه إليه أمر بوقف القتال، وأحسن استقباله وأكرمه، ثم سأله حاجته، فقال أبو العلاء:

  • قضيت في منزلي برهةً سَتِير العيوب فقيد الحسد
  • فلما مضى العمر إلا الأقل وهمَّ لروحي فراق الجسد
  • بُعثت شفيعًا إلى صالح وذاك من القوم رأي فسد
  • فيسمع منِّي سجع الحمام وأسمع منه زئير الأسد

فقال صالح:

بل نحن الذين تسمع منَّا سجع الحمام، وأنت الذي نسمع منه زئير الأسد

ثم أمر بخيامه فوضعت، ورحل عن "المعرة".

نشَرها لكم: وائل زكريا

  • Currently 331/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
111 تصويتات / 4796 مشاهدة
نشرت فى 14 سبتمبر 2009 بواسطة blindplus

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

943,366