جولات هيلين حول العالم
لم تكتف هيلين كيلار بذلك، لكنها فيما بعد أخذت تجوب العالم برفقة آن لتلقي أمام الجماهير المحتشدة محاضراتها التي كانت تتحدث فيها عن آراءها وأفكارها بالإضافة إلى الخبرة التي اكتسبتها طوال حياتها. وكانت آن سوليفان تقوم بترجمة ما تقوله هيلين جملة بجملة، كما كانت هيلين تعطي المجال للجماهير لطرح ما يشاءون من أسئلة بعد المحاضرة. وبرغم ما حققتاه من مستوى معيشي لا بأس به جراء إلقائهما تلك المحاضرات، فإن سوق هذه المحاضرات بدأ في الكساد بحلول عام 1918، الأمر الذي دفعهما إلى تغيير الهدف من جولاتهما الخارجية، فقد قامتا بأداء مسرحية استعراضية تتناول تلك اللحظة التي استوعبت فيها هيلين ولأول مرة معنى كلمة "ماء"، وقد لاقى هذا العرض نجاحاً منقطع النظير إلى حدٍ أثار إعجاب الجماهير والنقاد على حدٍ سواء، حتى قيل إن هيلين قد عادت إلى الساحة من جديد وبقوة لتنتزع كلمات الإعجاب والثناء حتى من أفواه أصحاب النقد اللاذع. وفي هذه الآونة، لم تكن لهيلين وآن فرصة أفضل من الموافقة على العرض المقدم لهما بشأن إنتاج فيلم في هوليود يحكي قصة حياة هيلين. وعلى الرغم من إنتاج الفيلم، فإن هيلين لم تكن سعيدة بالصورة القاتمة التي ظهرت فيها شخصيتها من خلال الفيلم، فضلا عن أن الفيلم نفسه لم ينجح في تحقيق العائد المادي المنتظر من ورائه. ومع استمرارها في تقديم عروضها المسرحية، فقد واصلت هيلين الإجابة على كثير من الأسئلة حول حياتها الشخصية وأفكارها السياسية، كما استمرت آن سوليفان في أداء دورها بترجمة ما تقوله هيلين للحضور المبهورين، محققتَين من وراء ذلك ما يقارب المئتي دولار أسبوعيا وهو ما يمثل عائداً مادياً لا بأس به في هذه الفترة.
وفي عام 1918، انتقلت هيلين كيلار بصحبة آن وزوجها جون ماسي للعيش في منطقة بوريست هيلز بمدينة نيو يورك. واتخذت هيلين من هذا المنزل الجديد قاعدة انطلاق لجولاتها المكثفة التي تهدف إلى جمع التبرعات لصالح المؤسسة الأمريكية لرعاية المكفوفين. ولم تكن هيلين تكتفي بجمع التبرعات فحسب، بل دأبت دون كلل أو ملل على تنظيم حملات من أجل تحسين الأوضاع المعيشية والوظيفية لفاقدي البصر. وقد كان لهذه المجهودات دورها البارز والفعال في تغيير الأوضاع المأساوية للمكفوفين الذين كانوا غالباً ما يعيشون في الملاجئ بالإضافة إلى مستوى تعليمهم المتدني. وفي عام 1921، توفيت كيت والدة هيلين كيلار نتيجةً لمرض غير معروف، الأمر الذي جعل من آن سوليفان الملاذ الوحيد لهيلين. بيد أن هذا الملاذ لم يستمر هو الآخر، ففي عام 1922، أصيبت آن سوليفان بالتهابٍ شعبيٍ حاد تركها غير قادرة على الكلام إلا همساً الأمر الذي اضطرها إلى التخلي نهائياً عن عملها مع هيلين على خشبة المسرح. ونتيجة لذلك, أصبحت بولي تومبسون والتي عملت كسكرتيرة لهيلين وآن منذ عام 1914، أصبحت المترجمة البديلة لهيلين على المسرح. حيث قضت هيلين وقتاً طويلا برفقة بولي في القيام بجولات حول العالم لجمع التبرعات لصالح المكفوفين. كما التقتا بالملك جورج والملكة ماري في قصرهما ببكنجهام عام 1931 حيث أبديا انبهارهما بقدرة هيلين على التواصل مع الناس عن طريق اللمس. كان ذلك بينما كانت صحة آن سوليفان تزداد تدهوراً، حيث نزل عليها خبر وفاة جون ميسي سنة 1932 كالصاعقة برغم انفصالهما قبل ذلك بعدة سنوات، واستمرت صحتها في التدهور حتى توفيت في العشرين من أكتوبر عام 1936. بعد وفاة آن، انتقلت هيلين كيلار برفقة بولي تومسون للعيش في اركاين ريدج في وست بورت بولاية كناتيكت وهو المكان الذي ستقضي فيه هيلين ما تبقى من حياتها. بعد الحرب العالمية الثانية، واصلت هيلين وبولي جولاتهما لجمع التبرعات لصالح المؤسسة الأمريكية لرعاية المكفوفين حول العالم، حيث زارتا اليابان وأستوراليا وأمريكا الشمالية بالإضافة إلى دول إفريقية وأوربية. لكن، وأثناء تلك الجولات الخارجية، وصلهما نبأ احتراق منزلهما في اركاين ريدج. وعلى الرغم من أن المنزل قد أعيد بناءه لاحقا، فقد أحزنهما فقدان الكثير من الأشياء التذكارية فضلاً عن ضياع كتاب "المعلمة" الذي كانت هيلين بصدد تأليفه عن معلمتها آن سوليفان. وفي الوقت ذاته، بدأت صحة بولي تومسون في التدهور تدريجياً، فأثناء إحدى زياراتهما لليابان، أصيبت بوعكة صحية خفيفة نصحها على إثرها الأطباء بإيقاف جولاتها مع هيلين كيلار، الأمر الذي استجابت له هيلين وبولي إلى حدٍ ما. لكنهما سرعان ما واصلتا جولاتهما بمجرد أن استردت بولي عافيتها. وفي عام 1953، صدر فيلم وثائقي تحت عنوان "قاهرة الصعاب" يحكي قصة حياة هيلين كيلار، وقد حصل هذا الفيلم على جائزة أوسكر كأفضل فيلم وثائقي طويل. والجدير بالذكر أن هيلين شرعت مجدداً في نفس العام في إعادة تأليف كتابها "المعلمة" بعد سبع سنوات من احتراق نسخته الأصلية، إلى أن صدر رسمياً عام 1955. وفي عام 1957، عاود المرض بولي تومسون من جديد، حيث أصيبت بوعكة صحية شديدة أبقتها طريحة الفراش حتى توفيت في الحادي والعشرين من شهر مارس عام 1960، وقد وُوري جثمانها الثرى إلى جوار آن سوليفان بالكاثدرائية القومية في واشنطون. وكانت الممرضة ويني كوربالي تقوم برعاية بولي تومسون خلال سنوات حياتها الأخيرة، وقد عُهِد إليها كذلك بعد وفاة بولي، برعاية هيلين كيلار في السنين المتبقية من حياتها.
نشَرها لكم: وائل زكريا
ساحة النقاش