اصطحبتْني أمي يوما في رحلة تسوق كنا نجريها من وقت لآخر لشراء بعض الملابس والاحتياجات المنزلية، وقررنا في هذا اليوم أن نتوجه إلى منطقة وسط البلد بالقاهرة لسببين وجيهين، الأول، أن هذه المنطقة بها محال تجارية وتنوع كبير في طرازات وأشكال وأسعار السلع والملابس، والثاني، أن الوصول لمنطقة وسط البلد بمترو الأنفاق أمسى وسيلة رائعة وسهلة وغير مكلفة، لهذا توجهنا إلى محطة مترو الأنفاق وركبنا العربة المخصصة للسيدات بهدف الوصول إلى وسط البلد بأسرع من أي وسيلة نقل أخرى في القاهرة.

وعربة السيدات في مترو الأنفاق عالم آخر بخلاف العالم الذي نعيش فيه، ولكن لا داعي للقلق ما دامت كل الحاضرات من السيدات! وما أن توقف المترو في إحدى محطاته إذ برجل كفيف يمسك بعصاه البيضاء يدخل إلى العربة المخصصة للسيدات ويصطحب معه صديق له لم يبدو عليه كف البصر في الوهلة الأولى، وما أن دخلا إلى العربة حتى غُلّقت الأبواب من تلقاء نفسها وأظن أنهما لم يعرفا أنهما في عربة السيدات. فانطلقت إحدى المتطوعات وأرشدت أحدهما للمقعد في هدوء إلا أنه آثر صديقه بالجلوس، فقامت أخرى ليجلس الآخر، ولكن الصديقان كانا بعيدين، ويبدو أن حرج أحدهما أو كليهما تسبب في تيه كل منهما عن الآخر!

جلس الكفيف الأول بجوار عجوز يبدو عليها البساطة، فطلبت منه أن يقرأ لها شيئا من القرآن، ولما اعتذر لها عن ذلك بحجة أنه لا يجيد تلاوة القرآن الكريم انطلقت بصوت عالٍ ولسان فظ في هجائه وما أن اجتمعت بعض السيدات ليسكتنها عما تفعل واقتربت منه إحداهن واستسمحته ألا يرد على العجوز، وفي معرض كلامها أخبرته بأنه في عربة السيدات، وما أن فعلت ذلك حتى احمر وجهه وتوقف الدم في عروقه وسكت لسانه عن الكلام تماما وهب واقفا معتذرا، ولزم باب المترو إلى أن فُتح في المحطة التالية وهبط وكله أسف وأسى.

أما الكفيف الثاني، فجلس بجوار فتاة جامعية كانت تستذكر بعض مقرراتها الدراسية، فما أن سمع تقلب صفحات كتابها حتى استخرج من حقيبته كتابا صغيرا يطلب منها قراءة فهرسه له، فتناولت الفتاة كتابه وأخذت تقرأه له، ولكنها كانت تنظر إليه نظرات المعجبات، وهو يستوقفها ليسألها عن بعض الأمور في الكتاب من غير حرج ولا خجل، وسرعان ما تحول الكلام إلى استفسارات شخصية عن نوع الدراسة والفرقة الدراسية وطبيعة الدراسة، ثم تبادلا أرقام التليفونات وبيانات الاتصالات، وكانت أمي تنظر إليهما وتبتسم على المفارقة التي تفرق بين هذا وصاحبه، وما أن غرق الكفيف الولهان والفتاة العاشقة في الكلام حتى قطعت إحدى السيدات كلامهما بأن أخبرت الكفيف بأنه هو الرجل الوحيد في العربة، وأن عليه أن يهبط وإلا تعرض لغرامة مالية ومساءلة قانونية، ومع ذلك لم يأبه بكلامها وتعلل بأنه كفيف لن يرى من السيدات شيئا وأن شرطي الأمن لن يصيبه بأذى لو عرف أنه كفيف، وبدى من كلامه أنه يتعلل بكل ذلك ليستمر في الكلام مع الفتاة التي تعرف عليها، إلى أن نزلا سويا في إحدى المحطات التي لم تكن بأي حال بالقرب من الجامعة.

يال غرابة الموقف، شتان بين هذا وصاحبه، ترى أيهما أتقى؟ وأيهما أنقى؟

كتبها لكم: لمياء الغريب.

نشَرها لكم: وائل زكريا

  • Currently 223/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
74 تصويتات / 873 مشاهدة
نشرت فى 28 يوليو 2009 بواسطة blindplus

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

924,769