حكَى لنا أحد أساتذتنا المكفوفين أثناء إحدى الحصص الاحتياطية أيام مراجعات نهاية العام في الثانوية العامة أنه واجه موقفا محرجا جدا في صباح ذلك اليوم، وكان يضرب بحكايته مثلا على التضحية من أجل إثبات الذات، فقال:
أثناء تجربتي اليومية من المنزل إلى المدرسة، التي أخوضها كل صباح، حدثت لي اليوم قصة طريفة جدا، فبعد أن خرجت من محطة مترو حمامات القبة لكي أعبر الشارع المؤدي إلى المدرسة، توقفت قدماي كعادتها، وانتظرت فاعل الخير الذي سيساعدني في عبور الشارع، فانتظرت وانتظرت، ولم يأبه بي أحد، ولم يكن الشارع خاليا تماما إذ أنني كنت أسمع وقع أقدام أحيانا وتحركة تنُم عن وجود شخص قريب مني، ولكن هذا الشخص لم يرد عليّ ولم يأبه بحاجتي! فقررت أن أباغته بالسؤال عله يحرج ويعبر معي الطريق، فطلبت منه أن يعبر معي الطريق، فلم يرد علَيّ والتزم الصمت وكأنه يريد الهروب مني أو الهروب من مساعدتي، (يال قلة مروأة الناس في هذه الأيام، ما بال أقوام شغلتهم دنياهم وحياتهم عن خدمة الخلق، مالهم يضنون بما يستطيعون، يا إلهي)،ثم كررت طلبي إليه ساخرا متهكما، ثم عرضت عليه أن يحضر أي من أقربائه إلى حصص المراجعة التي أعطيها لطلابي في الثانوية العامة، ومع ذلك، لم يأبه الرجل بما أقول، فقررت أن أذهب إليه وأمسك بإُذنه وأوبخه على أنانيته المفرطة التي منعته من مساعدتي، وما أن اقتربت منه ومددت يدي لكي أمسك بأُذنه إذ أجدني أمسك برقبة حمار!
نعم! كان الواقف حمارا! وعلى الفور ظهر الناس من كل مكان وكأننا في مشهد سخيف للكاميرا الخفية! كأنهم لم يرونني واقفا قبل ذلك، كأنهم هبطوا دفعة واحدة من السماء أو خرجوا دفعة واحدة من باطن الأرض! قائل يقول: "لا إله إلا الله، لماذا تقترب من الحمار يا بني؟" وكأنني دخلت إلى بيت الحمار، وكأن الشارع ملك للحمار، وقائل يقول: "هل تعرف إلى أين أنت ذاهب؟" وكأنني قد جن عقلي أو أغشي عليّ! وقائل يقول: "نعم نعم، كأني أعرفك، أنا أراك كل يوم وأنت داخل من باب المؤسسة، لكن لماذا تقف هنا؟" وبينما كنت في تلك الحالة الحرجة أشعر بذهول لا يفارقني، إذ بي أتوجه وهم يتبعونني لعبور الشارع، وبعد أن عبرنا الشارع جمعاء، كان كل فريق منهم قد فرغ من طرح أسئلته الساذجة وانصرف، وصرت وحدي ثانية، وإذ بسيدة تستوقف أحدهم وتطلب منه أن يصطحبني في طريقه، إلا أنه رد عليها: "إنه يعرف طريقه جيدا، أنا أثق بقدرته على الوصول للمدرسة التي سيذهب إليها" وولى القائل مدبرا معرضا عن مساعدتي، وانصرفت السيدة واثقة بكلامه الأبله، إلا أن كلامهم ومواقفهم المخذلة دفعتني لأن أمشي بمفردي وأصل للمدرسة وكلي عزيمة على أن أصل بمفردي برغم أنني كنت أحمل من الألم والغيظ ما أنني لو رأيت مبصرا أو قابلته لقطعت أوصاله إربا، وبالقرب من باب المدرسة قابلني أحد الزملاء وأقبل عليّ مسرعا وصار يحكي لي عن قرارات الإدارة المدرسية ومشكلات العمل حتى أنني نسيت ذلك الموقف كما نسيت أسلافه.
نشَرها لكم: وائل زكريا
ساحة النقاش